كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه الثاني: أن اللام في قوله: {لِوَقْعَتِهَا} ظرفية، و{كَاذِبَةٌ} اسم فاعل صفة لمحذوف أي ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها.
وهذا المعنى تشهد له في الجملة آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [الشعراء: 201]، وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66]، وباقي الأوجه قد يدل على معناه قرآن ولكنه لا يخلو من بعد عندي، ولذا لم أذكره، وأقربها عندي الأول.
{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)}.
خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف.
قال بعض العلماء: تقديره هي خافضة أقوامًا في دركات النار، رافعة أقوامًا غلى الدرجات العلى إلى الجة، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة كقوله: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145]، وقوله تعالى: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [طه: 75- 76] وقوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة.
وقال بعض العلماء: تقديره خافضة أقوامًا كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقوامًا كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29- 30]- إلى قوله- {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ} [المطففين: 34- 35] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء: تقديره، خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الكواكب انتثرت وَإِذَا الكواكب انتثرت} [الإنفطار: 2] وقال تعالى: {وَإِذَا النجوم انكدرت} [التكوير: 2] رافعة: أي رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47]، فقوله: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن، أن ذلك يوم القيامة، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن.
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضًا يوم القيامة، وذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} [الحاقة: 13- 14] الآية.
وعلى هذا القول، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، وعلى القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضًا، وقد قدمنا مرارًا أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع.
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}.
قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا}. بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]، والرج: التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكًا شديدًا جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] وقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة، لا يكذب بعضها بعضًا وكلها حقن وكلها يشهد له قرآن.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ان الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
قال أكثر المفسرين {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} أي فتت تفتيتًا حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد ان يخبز دقيقًا عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقًا ملتوتًا، وهو البسيسة.
لا تخبزا خبرزًا بوسابسا ** ولا تطيلا بمناخ حبسا

وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيبًا مَّهِيلًا} [المزمل: 14]، فقوله: {كَثِيبًا مَّهِيلًا} أي رملًا متهايلًا، ومنه قول امرئ القيس:
ويومًا على ظهر الكثيب تعذرت ** علي وآلت حلفة لم تحلل

ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة، فقوله: {وَكَانَتِ الجبال كَثِيبًا مَّهِيلا} مطابق في المعنى لتفسير {وَبُسَّتِ الجبال} بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى.
وما دلت عليه هذه الآية من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} [القارعة: 5]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل وَتَكُونُ الجبال كالعهن} [المعارج: 8- 9] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبى سلمى في معلقته:
كأن فتاة العهن في كل منزل ** نزلن به حب الفنا لم يحطم

وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانه وغرابيب سود، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوى، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثًا بالفاء على قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها: {مُّنبَثًّا} أي متفرقًا، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثانيك أن معنى قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} أي سيرت بين السماء والأرض، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب: بسست الإبل أبسها، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء، لغتان بمعنى سقتها، ومنه حديث:
«يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون».
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] الآية، وقوله: {وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} [الطور: 10].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].
الوجه الثالث: أن معنى قوله: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} نزعت من أماكنها وقلعت، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة، وأطوارها، بالآيات القرآنية، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا} كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] والهباء إذا انبث، أي تفرق، واضحمل وصار لا شيء، والسراب قد قال الله تعالى فيه: {حتى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39].
{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)}.
قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً}.
أي صرتم أزواجًا ثلاثة، والعرب تطلق كان بمعنى صار، ومنه {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35] أي فتصيرا من الظالمين.
ومنه قول الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخًا بيوضها

وقوله: {أَزْوَاجًا}: أي أصنافًا ثلاثة، ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله: {فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة السابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 8- 12] أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين، كما أوضحه تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} [الواقعة: 27 – 28] الآيات، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال كما أوضحه تعالى بقوله: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 41 – 42] الآيات.
قال بعض العلماء: قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة.
وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم، كما رأهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء.
وقيل سموا أصحاب اليمين، وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي مباركون على أنفسهم، لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن البركة.
وسمي الآخرون أصحاب الشمال، وقيل: لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم.
وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار، والعرب تسمي الشمال شؤمًا، كما تسمي اليمين يمينًا، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم: فعصوا الله فأدخلهم النار، والمشائيم ضد الميامين، ومنه قول الشاعر:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلا بين غرابها

وبين جل وعلا أن السابقين هم المقربون، وذلك في قوله: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10- 11]، وهذه الأزواج الثلاثة المذكورة هي وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي وجزاؤها أيضًا في آخرها، وذلك في قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88- 94].
والمكذبون هم أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال.
وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة والمشأمة في البلد في قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 13- 15]- إلى قوله تعالى- {أولئك أَصْحَابُ الميمنة والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ} [البلد: 18- 20].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} [الواقعة: 8]، وقوله: {مَآ أَصْحَابُ المشأمة} [الواقعة: 9] استفهام أريد به التعجب من شأن هؤلاء في السعادة، وشأن هؤلاء في الشقاوة، والجملة فيهما مبتدأ وخبر، وهي خبر المبتدأ قبله، وهو أصحب الميمنة في الأول وأصحاب المشأمة في الثاني.
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1- 2]، {القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1- 2]. والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى، وقوله: {والسابقون} لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله، ولكنه ذكر في مقابلة تكرير لفظ السابقين.
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ومنه قول أب النجم: